فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة المدثر عليه الصلاة والسلام:
{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1)}
قوله: {المدثر}: العامّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ، اسم فاعلٍ من تدثّر. وأصلُه المُتدثِّر، فأُدْغِم كالمُزّمِّل. وفي حرفِ أُبيّ {المُتدثِّرُ} على الأصل المُشارِ إليه. وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسم فاعلٍ، مِنْ دثّر بالتشديد، ويكون المفعولُ محذوفا أي: المُدثِّر نفسه كما تقدّم في {المُزمِّل}. وعنه أيضا فتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ. قال الزمخشري: مِنْ دثّره. يُقال: دُثِّرْتُ هذا الأمر، وعُصِب بك كما قال في المُزمّل. انتهى. ومعنى (تدثّر) لبِس الدّثار، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار، والشِّعارُ ما يلي الجسد. وفي الحديث: «الأنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ» وسيفٌ داثِرٌ: بعيد العهْدِ بالصِّقال. ومنه: قيل للمنزلِ الدارسِ: (داثِر) لِذهابِ أعلامِه. وفلانٌ دثْرُ المالِ أي: حسنُ القيام به.
{قُمْ فأنْذِرْ (2)}
قوله: {قُمْ}: إمّا أنْ يكون من القيامِ المعهودِ، وإمّا مِنْ قام بمعنى: الأخْذِ في القيام، كقوله:
فقام يذُوْدُ الناس عنها بسيْفِه

وقول الآخر:
على ما قام يشْتِمُني لئيمٌ

في أحدِ القوليْنِ. والقول الآخر: أن (قام) مزيدةٌ وفي جعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يصيرُ مِنْ أخوات (عسى) فلابد له مِنْ خبرٍ يكونُ فعلا مضارعا مجرّدا مِنْ (أن).
قوله: {فأنذِرْ} مفعولُه محذوفٌ. أي: أنذِرْ قومك عذاب اللّهِ. والأحسنُ أنْ لا يُقدّر له مفعولٌ أي: أوقعْ الإِنذار.
{وربّك فكبِّرْ (3)}
قوله: {وربّك فكبِّرْ}: قدّم المفعول وكذا ما بعده إيذانا بالاختصاص عند منْ يرى ذلك، أو للاهتمام به، قال الزمخشري: واختُصّ {ربّك} بالتكبير. ثم قال: ودخلتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ. كأنه قيل: وما كان فلا تدعْ تكبيره. قلت: قد تقدّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قوله: {وإِيّاي فارهبون} [البقرة: 40] أول البقرة. قال الشيخ: وهو قريبٌ مِمّا قدّره النحاةُ في قولك: (زيدا فاضْرِب) قالوا: تقديرُه: تنبّهْ فاضرِبْ زيدا. والفاءُ هي جوابُ الأمرِ. وهذا الأمرُ: إمّا مُضمّنٌ معنى الشرط، وإمّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة.
{والرُّجْز فاهْجُرْ (5)}
وقرأ حفص {والرُّجْز} بضمِّ الراء، والباقون بكسرِها، فقيل: لغتان بمعنى. وعن أبي عبيدة: الضمُّ أفشى اللغتيْن، وأكثرُهما. وقال مجاهد: هو بالضمِّ اسمُ صنمٍ، ويُعزى للحسنِ البصري أيضا، وبالكسر اسمٌ للعذابِ. وعلى تقديرِ كونِه العذاب فلابد مِنْ حذْفِ مضافٍ أي: اهُجرْ أسباب العذابِ المؤدِّيةِ إليه، أو لإِقامةِ المُسبّبِ مُقام سببِه، وهو مجازٌ شائع.
{ولا تمْنُنْ تسْتكْثِرُ (6)}
قوله: {ولا تمْنُن}: العامّةُ على فكِّ الإِدغام. والحسن وأبو السّمّال بالإِدغام. قد تقدّم أنّ المجزوم والموقوف من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ، وقد تقدّم تحقيقُه في المائدة عند {من يرْتدّ مِنكُمْ} [المائدة: 54]. والمشهور أنه من المنِّ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه. وقيل: (لا تضْعُفْ) مِنْ قولهم: حبلٌ منينٌ أي: ضعيفٌ.
قوله: {تسْتكْثِرُ} العامّةُ على رفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أنه في موضع الحالِ أي: لا تمْنُنْ مُسْتكْثِرا ما أعطيْت. وقيل: معناه: لِتأْخُذْ أكثر مِمّا أعْطيْت. والثاني: أنّه على حذْفِ (أن) يعني أنّ الأصل: ولا تمْنُنْ أنْ تستكثر، فلمّأ حُذِفتْ (أن) ارتفع الفعلُ كقوله:
ألا أيُّهذا الزّاجري أحْضُرُ الوغى

في إحدى الروايتيْن، قاله الزمخشري، ولم يُبيِّنْ: ما محلُّ (أن) وما في حيِّزها. وفيه وجهان، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حذْفِ حرف الجر، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه: ولا تمْنُنْ لأنْ تسْتكْثِر. والثاني: أنّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولا بها أي: لا تضْعُفْ أنْ تسْتكْثِر. من الخير، قاله مكي، وقد تقدّم لك أنّ {تمْنُنْ} بمعنى تضْعُف، وهو قول مجاهدٍ، إلاّ أنّ الشيخ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ: وهذا لا يجوزُ أن يُحمل القرآن عليه؛ لأنّ ذلك لا يجوزُ إلاّ في الشعرِ، ولنا منْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ.قلت: قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا. وأيضا فقوله: (في الشعر) ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضا فقد قرأ الحسن والأعمش {تسْتكْثِر} نصبا، وهو على إضمار (أن) كقولهم: (مُرْهُ يحْفِرها) وأبلغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءة عبد الله: {ولا تمْنُنْ أنْ تستكثر}.
وقرأ الحسنُ أيضا وبانُ أبي عبلة {تستكثِرْ} جزما، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنْ يكون بدلا من الفعلِ قبله، كقوله تعالى: {يلْق أثاما يُضاعفْ} [الفرقان: 68- 69] ف {يُضاعفْ} بدلٌ مِنْ {يلْق} وكقوله:
متى تأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ** تجِدْ حطبا جزْلا ونارا تأجّجا

ويكونُ من المنِّ الذي في قوله: {لا تُبْطِلواْ صدقاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] الثاني: أن يُشبّه (ثِرْو) ب (عضُد) فيُسكّن تخفيفا، قاله الزمخشري، يعني أنه تأْخُذُ من مجموعِ {تسْتكثر} ومن الكلمةِ بعده وهو الوأو ما يكون فيه شبيها ب (عضُد). ألا ترى أنه قال: (أنْ يُشبّه ثِرْو) فأخذ بعض {تسْتكثر} وهو الثاءُ والراءُ وحرف العطف مِنْ قوله: {ولربِّك فاصبِرْ}.
وهذا كما قالوا في قول امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غير مُسْتحْقِبٍ ** إثما من الله ولا واغلِ

بتسكين (أشْربْ): إنهم أخذوا من الكلمتين (ربْغ) ك عضُد، ثم سُكِّن. وقد تقدّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل {من يتّقِي} [يوسف: 90] بثبوت الياءِ أنّ (من) موصولةٌ، فاعْتُرِض بجزم (يصْبِرْ) فأجيب: بأنه شبه (بِرُف) أخذوا الباء والراء مِنْ (يصْبر)، والفاء مِنْ (فإنّ) وهذا نظيرُ تيْك سواء. الوجه الثالث أنْ يُعْتبر حالُ الوقفِ ويُجْرى الوصلُ مُجْراه، قاله الزمخشريُّ أيضا، يعني أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن تخفيفا، أو أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال الشيخ: وهذان لا يجوزُ أنْ يُحْمل عليهما مع وجودِ أرجح منهما، وهو البدل. قلت: الحقُّ أحقُّ أنْ يُتّبع، كيف يُعْدلُ إلى هذيْن الوجهيْن مع ظهورِ البدلِ معنى وصحة وصناعة؟
{ولِربِّك فاصْبِرْ (7)}
قوله: {ولِربِّك فاصبر}: التقديمُ على ما تقدّم، وحسّنه كونُه رأس فاصلةٍ مُؤاخيا لِما تقدّمه. و{لربِّك} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنْ تكون لام العلةِ أي: لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك، وعن كلِّ ما لا يليقُ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما. والأحسنُ أنْ لا يُقدّر شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ. والثاني: أن يُضمّن (اصْبِرْ) معنى: اذْعنْ لربِّك وسلِّمْ له أمرك صابرا، كقوله: {فاصبر لِحُكْمِ ربِّك} [القلم: 48].
{فإِذا نُقِر فِي النّاقُورِ (8) فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ (9)}
قوله: {فإِذا نُقِر}: قال الزمخشريُّ: والفاءُ في قوله: {فإذا نُقِر} للتسبيب، كأنه قيل: اصبِرْ على أذاهم، فبين أيديهم يومٌ عسيرٌ يلْقوْن فيه عاقبة أذاهم، وتلْقى فيه عاقبة صبرِك عليه. والفاء في {فذلك} للجزاء. قلت: يعني أنّ الفاء في {فذلك} جزاءٌ للشرطِ في قوله: {فإذا نُقِر}. وفي العامل في (إذا) أوجهٌ، أحدُها: أنّها متعلِّقةٌ ب (أنْذِرْ) أي: أنْذِرْهم إذا نُقِر في النّاقور، قاله الحوفيُّ. وفيه نظرٌ: من حيث إنّ الفاء تمنعُ مِنْ ذلك، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلا، لكنه في معْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى.
الثاني: أن ينتصِب بما دلّ عليه قوله: {فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ}. قال الزمخشري: فإنْ قلت: بم انتصب (إذا)، وكيف صحّ أنْ يقع {يومئذٍ} ظرفا ل {يومٌ عسير}؟ قلت: انتصب (إذا) بما دلّ عليه الجزاءُ؛ لأنّ المعنى: فإذا نُقِر في النّاقور عسُر الأمرُ على الكافرين. والذي أجاز وقوع يومئذٍ ظرفا ل {يومٌ عسيرٌ} أنّ المعنى: فذلك يوم النّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنّ يوم القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقرُ في الناقور. انتهى. ولا يجوزُ أنْ يعمل فيه نفسُ {عسير}؛ لأنّ الصفة لا تعملُ فيما قبل موصوفِها عند البصريين؛ ولذلك رُدّ على الزمخشريِّ قوله: إنّ {في أنفسِهم} متعلِّق ب {بلغيا} في قوله تعالى في سورةِ النساءِ [الآية: 63] {وقُل لّهُمْ في أنْفُسِهِمْ قولا بلِيغا} والكوفيون يُجوزون ذلك وتقدّم تحريرُه.
الثالث: أنْ ينتصِب بما دلّ عليه {فذلك} لأنه إشارةٌ إلى النّقْر، قاله أبو البقاء. ثم قال: {ويومئذٍ} بدلٌ مِنْ {إذا} و(ذلك) مبتدأٌ والخبرُ {يومٌ عسيرٌ} أي: نُقِر يوم. الرابع: أنْ يكون (إذا) مبتدأ، و{فذلك} خبرُه. والفاءُ مزيدةٌ فيه، وهو رأيُ الأخفشِ.
وأمّا {يومئِذٍ} ففيه أوجهٌ، أحدها: أنْ يكون بدلا مِنْ {إذا} وقد تقدّم ذلك في الوجهِ الثالث. والثاني: أنْ يكون ظرفا ل {يومٌ عسيرٌ} كما تقدّم في الوجهِ الثاني. الثالث: أنْ يكون ظرفا ل (ذلك) لأنّه مُشارٌ به إلى النّقْر. الرابع: أنّه بدلٌ مِنْ {فذلك}، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ. الخامس: أنْ يكون مبتدأ {ويومٌ عسيرٌ} خبره، والجملة خبر {فذلك}.
{على الْكافِرِين غيْرُ يسِيرٍ (10)}
قوله: {على الكافرين}: فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يتعلّق ب {عسير}. الثاني: أنْ يتعلّق بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل عسير. الثالث: أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في {عسير}. الرابع: أن يتعلّق ب {يسير} أي: غيرُ يسيرٍ على الكافرين، قاله أبو البقاء، إلاّ أنّ فيه تقديم معمولِ المضافِ إليه على المضافِ، وهو ممنوعٌ، وقد جوز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف {غير} بمعنى النفي كقوله:
إنّ امرأ خصّني عمْدا مودّته ** على التنائي لعِنْدي غيرُ مكْفورِ

وتقدّم تحريرُ هذا آخر الفاتحةِ مُشْبعا، فعليك باعتبارِه ثمّة. الخامس: أن يتعلّق بما دلّ عليه {غيرُ يسير} أي: لا يسْهُلُ على الكافرين. قال الزمخشري: فإنْ قلت فما فائدةُ قوله: {غيرُ يسير} و{عسير} مُغْنٍ عنه؟ قلت: لمّا قال: {على الكافرين} فقصر العُسْر عليهم قال: {غيرُ يسير} لِيُؤْذن بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هيِّنا ليجمع بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غيْظهم وتبشير المؤمنين وتسْلِيتهم. ويجوز أن يُراد: عسيرٌ لا يُرْجى أن يرْجِع يسيرا، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا.
وقوله: {نُقِر فِي الناقور} أي صُوِّت يقال: نقرْتُ الرجل إذا صوّتّ له بلسانِك وذلك بأنْ تُلْصِق لسانك بنُقْرة حنكِك. ونقرْتُ الرجل: إذا خصصْته بالدعوة، كأنك نقرْت له بلسانِك مُشيرا إليه، وتلك الدعوةُ يقال لها النّقرى، وهي ضدُّ الدعوةِ الجفلى. قال الشاعر:
نحن في المشْتاةِ ندْعُو الجفلى ** لا ترى الآدِب فينا ينْتقِرْ

وقال امرؤ القيس:
أنا ابنُ مأويّة إذْ جدّ النُّقُرْ

يريد: (النّقْرُ) أي: الصوتُ. وقال أيضا:
أُخفِّضُه بالنّقْرِ لمّا علوتُه ** ويرْفعُ طرْفا غير جافٍ غضِيضٍ

والنّاقُور: فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِن التجسُّسِ، وهو الشيءُ المُصوّتُ فيه: وفي التفسير: إنّه الصُّورُ الذي ينْفخُ فيه الملكُ. والنّقْرُ أيضا: قرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ. والمِنْقارُ: الحديدةُ التي يُنْقرُ بها. ونقرْتُ عنه: بحثْتُ عن أخبارِه، استعارة من ذلك. ونقرْتُه: أعبْتُه، ومنه قول امرأةٍ لزوْجِها: (مُرّ بي على بني نظرٍ، ولا تمرّ بي على بناتِ نقرٍ) أرادت ببنين نظرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها، وببنات نقرٍ النساء لأنهنّ يُعِبْنها وينْقُرْن عن أحوالِها.
{ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا (11)}
قوله: {ومنْ خلقْتُ}: كقوله: {والمكذبين} [المزمِّل: 11] في الوجهيْنِ المتقدميْنِ في السورةِ قبلها.
قوله: {وحِيدا} فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من الياء في (ذرْني) أي: ذرْنِي وحْدي معه فأنا أكْفِيْك في الانتقام منه. الثاني: أنه حالٌ مِن التاء في {خلقْتُ} أي: خلقْتُه وحْدي لم يُشْرِكْني في خلْقِه أحدٌ، فأنا أمْلِكُه. الثالث: أنّه حالٌ مِنْ (من). الرابع: أنه حالٌ من عائدِ المحذوفِ أي: خلقْتُه وحيدا. الخامس: أن ينتصِب على الذمِّ. و{وحيد} كان لقبا للوليدِ بن المُغِيرة. ومعنى {وحيدا}: ذليلا قليلا. وقيل: كان يزْعُمُ أنه وحيدٌ في فضْلِه ومالِه. وليس في ذلك ما يقْتضي صِدْق مقالتِه؛ لأنّ هذا لقبٌ له شُهِر به، وقد يُلقّبُ الإِنسانُ بما لا يتّصِفُ به، وإذا كان لقبا تعيّن نصبُه على الذمِّ.
{كلّا إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا (16)}
قوله: {إِنّهُ كان لآياتِنا عنِيدا}: استئنافٌ، جوابٌ لسائلِ سأل: لِم لا يزدادُ مالا؟ وما بالُه رُدِع عن طمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقوله: {إِنّهُ كان لآيتِنا عنِيدا}.
{إِنّهُ فكّر وقدّر (18)}
قوله: {إِنّهُ فكّر}: يجوزُ أنْ يكون استئناف تعليلٍ لقوله: {سأُرْهِقُه}. ويجوزُ أنْ يكون بدلا مِنْ {إِنّهُ كان لآيتِنا عنِيدا}.
{ثُمّ عبس وبسر (22)}
قوله: {ثُمّ عبس}: يُقال: عبس يعْبِسُ عبْسا وعُبُوسا أي: قطّب وجهه. والعبسُ: ما يبِس في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبوْل. قال أبو النجم:
كأن في أذْنابِهِنّ الشُّوّلِ ** مِنْ عبسِ الصّيْفِ قُرون الأُيّلِ

قوله: {وبسر} يُقال: بسر يبْسُر بسْرا وبُسُورا: إذا قبض ما بين عيْنيْه كراهة للشيْءِ، واسْودّ وجهُه مِنْه. يقال: وجْهٌ باسِرٌ أي: مُنْقبِضٌ أسودُ.
قال:
صبحْنا تميما غداة الجِفارِ ** بشهْباء ملْمومةٍ باسِرةْ

وأهل اليمن يقولون: بسر المرْكبُ وأبْسر: إذا وقف. وأبْسرْنا أي: صِرْنا إلى البُسُور. وقال الراغب: البسْرُ: البسْرُ: الاستعجالُ بالشيء قبل أوانِه نحو: بسر الرجلُ الحاجة: طلبها في غيرِ أوانِها، وبسر الفحْلُ الناقة: ضربها قبل الضّبعةِ. وماء بسْرٌ: مُتنأولٌ مِنْ غدِيرِه قبل سُكونه، ومنه قيل للذين لم يُدْرك من التّمر: بُسْر. وقوله تعالى: {ثُمّ عبس وبسر} أي: أظهر العُبوس قبل أوانِه، وفي غيرِ وقتِه. فإنْ قيل: فقوله عز وجل: {وُجوهٌ يوْمئِذٍ باسِرةٌ} [القيامة: 24] ليس يفْعلون ذلك قبل الوقتِ. وقد قلت: إنّ ذلك يُقال فيما كان قبل وقْتِه. قلتُ: إنّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبل الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصّ لفظُ البُسْرِ تنبيها أنّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يجْري مجْرى التكلُّفِ، ومجْرى ما يُفْعلُ قبل وقْتِه. ويدُلُّ على ذلك قوله: {تظُنُّ أن يُفْعل بِها فاقِرةٌ} [القيامة: 25] انتهى كلامُ الراغب.
وقد عطف في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسبةٌ. أمّا ما عطف ب (ثم) فلأنّ بين الأفعالِ مهلة، وثانيا لأنّ بين النّظر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخيا. قال الزمخشري: و{ثُمّ نظر} عطف على {فكّر وقدّر} والدعاءُ اعتراضٌ بينهما. قلت: يعني بالدعاءِ قوله: {فقُتِل}. ثم قال: فإنْ قُلْت ما معنى (ثم) الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت: الدلالة على أنّ الكرّة الثانية أبْلغُ من الأولى، ونحوه قوله:
ألا يا اسْلمي ثُمّ اسْلمي ثُمّت اسْلمي

فإنْ قلت: فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت: للدلالة على أنه تأنّى في التأمُّل، وتمهّل، وكان بين الأفعالِ المتناسِقةِ تراخٍ وبُعْدٌ. فإن قلت: فلِم قال: {فقال} بالفاءِ بعد عطف ما قبله ب ثم؟
قلت: لأنّ الكلمة لمّا خطرتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالكْ أنْ نطق بها مِنْ غيرِ تثبُّتٍ. فإنْ قلت: فلِم لمْ يتو‍سّطْ حرفُ العطف بين الجملتيْن؟ قلت: لأنّ الأخرى جر‍تْ مِن الأولى مجْرى التوكيدِ من المؤكّد.
{سأُصْلِيهِ سقر (26)}
قوله: {سأُصْلِيهِ سقر}: هذا بدلٌ مِنْ قوله: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} قاله الزمخشري. فإنْ كان المرادُ بالصّعودِ المشقة فالبدلُ واضحٌ، وإنْ كان المرادُ صخرة في جهنم، كما جاء في بعضِ التفاسير، فيعْسُرُ البدلُ، ويكون فيه شبهٌ مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأنّ جهنم مُشْتمِلةٌ على تلك الصخرةِ.
{لا تُبْقِي ولا تذرُ (28)}
قوله: {لا تُبْقِي}: فيه وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها معنى التعظيمِ، قاله أبو البقاء، يعني أنّ الاستفهام في قوله ما سقرُ؟ للتعظيم فالمعنى: استعظموا سقر في هذه الحال. ومفعول {تُبْقي} و{تذرُ} محذوفٌ، أي: لا تُبقي ما أُلْقي فيها، ولا تذرُهُ، بل تُهْلِكُه. وقيل: تقديرُه لا تُبْقي على منْ أُلْقي فيها، ولا تذرُ غاية العذابِ إلاّ وصلتْه إليه. والثاني: أنها مستأنفةٌ.